فصل: (سورة النمل: الآيات 1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال الهدهد: ومن سليمان بن داود؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير الوحوش والريح فمن أين أنت؟ فقال: أنا من هذه البلاد. قال: ومن ملكها؟ قال: إمرأة يقال لها: بلقيس، وإن لصاحبكم سليمان مُلكًا عظيمًا ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكت الشمس كلها وتحت يديها إثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل.
فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ قال: أخاف أن يتفقدني سليمان وقت الصلاة إذا أحتاج إلى الماء.
قال الهدهد اليماني: إن صاحبك ليسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة. فإنطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وما رجع إلى سليمان إلاّ وقت العصر.
قال: فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة طلب الهدهد وذلك أنه نزل على غير ماء فسأل الإنس عن الماء فقالوا: ما نعلم ههنا ماء. فسأل الجن والشياطين فلم يعلموا فتفقد الهدهد ففقده قال ابن عباس: في بعض الروايات: وتعب من تفحّصِه إلى الشمس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال: أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته مكانًا، فغضب عند ذلك سليمان عليه السلام وقال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}.
روى عكرمة عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة.
قالوا: ثم دعا بالعقاب سيد الطير فقال: عليَّ بالهدهد الساعة. فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى استقرَّ بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يمينًا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده، فلما رأى الهدهد ذلك عَلم أن العقاب يقصده بسوء فناشده فقال: بحق الله الذي قواك فأقدرك عليَّ إلاّ رحمتني ولم تتعرض لي بسوء.
قال: فولَّ عنه العقاب وقال له: ويلك ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما إنتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له: ويلك أين غبت في نومك هذا، فلقد توعدك نبي الله وأخبرّوه بما قال.
فقال الهدهد: أوما استثنى رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: أو ليأتيني بعذر بيّن. ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدًا على كرسيه. فقال العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله.
فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض؛ تواضعًا لسليمان، فلمّا دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه وقال له: أين كنت؟ لأُعذّبنك عذابًا شديدًا، فقال له الهدهد: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله سبحانه، فلمّا سمع ذلك سليمان ارتعد وعفا عنه.
أخبرني الحسن بن محمد الثقفي قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا محمد ابن إبراهيم بن أبي الرجال ببغداد قال: حدّثنا إبراهيم بن بسطام عن أبي قتيبة عن الحسن بن أبي جعفر الجعفري عن الزبير بن حريث عن عكرمة قال: إنّما صرف سليمان عليه السلام عن ذبح الهدهد لبرّه بوالديه.
قالوا: ثم سأله فقال: ما الذي أبطا بك عنّي؟ فقال الهدهد: ما أخبَر الله في قوله: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قراءة العامّة بضم الكاف، وقرأ عاصِم ويعقوب وأبو حاتم بفتحه وهما لغتان مشهورتان.
{فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} علمتُ ما لم تعلم {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ} قرأ الحسن وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحميد وابن كثير في رواية البزي من سَبأ ولسبأ مفتوحة الهمزتين غير مصروفة، ردّوها الى القبيلة، وهي اختيار أبي عُبيد، وقرأ الباقون بالجرّ، جعلوه اسم رجل وبه نطق الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن سبأ فقال: كان رجلًا له عشرة من البنين يتيامن من ستة ويتشاءم من أربعة، وسنذكر أسماءهم وقصتهم في سورة سبأ إن شاء الله عزّ وجل، وقال الشاعر:
الواردون وتيم في ذرى سبا ** قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس

{بِنَبَإٍ} بخبر {يَقِينٍ} لا شكَّ فيه.
قال وهب: قال الهدهد: إنّي أدركت ملكًا لم يبلغه مُلكك.
{إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} واسمها بلقيس بنت الشيرح، وهو الهدهَاد وقيل: شراحيل ابن ذي حدن بن اليشرج بن الحرث بن قيس بن صفى بن سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان، وكان أبو بلقيس الذي يسمّى اليشرج ويلقّب بالهدهاد ملكًا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكًا، وكان يملك أرض اليمن كلّها وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفوًا لي، فأبى أن يتزوّج فيهم فزوّجوه امرأة من الجنّ يُقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له تلمقة وهي بلقيس ولم يكن له وَلد غيرها.
ويصدّق هذا ما أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال: حدّثنا محمد بن حريم بن مروان قال: حدّثنا هشام بن عّمار قال: حدّثنا الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشر بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «كان أحد أبوَي بلقيس جنّيًا» قالوا: فلمّا مات أبو بلقيس ولم يخلّف ولدًا غيرها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون، فاختاروا عليها رجلًا فملّكوه عليهم، وافترقوا فرقتين كلّ فرقة منها استولت بملكها على طرف من أرض اليمن.
ثمّ إنّ هذا الرجل الذي ملّكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمّد يده إلى حرم رعيّته ويفجر، بهن وأراد أصحابه أن يخلعوه فلم يقدروا عليه، فلمّا رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها الملك: والله ما منعني أن ابتديك بالخطبة إلاّ اليأس منك فقالت: لا أرغب عنك فإنك كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا: لا نراها تفعل هذا، فقال لهم: إنّما هي ابتدأتني فأنا أحبّ أن تسمعوا قولها وتشهدوا عليها، فلّما جاءوها وذكروا لها ذلك قالت: نعم أحببت الولد ولم أزل، كنت أرغب عن هذا فالساعة قد رضيتُ به فزوّجُوها منهُ، فلمّا زُفّت إليه خرجت في ناس كثير من خدمها وحشمها حتى غصّت منازله دوره بهم، فلمّا جاءته سقته الخمر حتى سكر ثم حزّت رأسه وانصرفت من الليل الى منزلها، فلمّا أصبح الناس رأوا الملك قتيلًا ورأسه منصوبًا على باب دارها، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت مكرًا وخديعة منها فاجتمعوا إليها وقالوا لها: أنتِ بهذا الملك أحقّ من غيرك، فقالت: لولا العار والشنار ما قتلته ولكن عمَّ فساده وأخذتني الحميّة حتى فعلت ما فعلت فملّكوها واستتبّ أمرها.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن خديجة قال: حدّثنا ابن أبي الليث ببغداد قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أبي بكرة قال: ذكرت بلقيس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفلح قوم وَلّوا أمرهم امرأة».
{وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة.
{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} سرير ضخم حسن، وكان مقدّمه من ذهب مفصّص بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، ومؤخّره من فضّة مكلّل بألوان الجواهر وله أربع قوائم: قائمة من ياقوت أحمر وقائمة من زمرّد، وقائمة من ياقوت أخضر، وقائمة من درّ، وصفائح السرير من ذهب، وعليه سبعة أبواب كلّ بيت باب مغلق.
قال ابن عباس: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعًا في ثلاثين ذراعًا، وطوله في الهواء ثلاثون ذراعًا.
وقال مقاتل: كان ثمانين ذراعًا في ثلاثين ذراعًا وطوله في الهواء ثمانون ذراعًا مُكلّل بالجوَهر.
{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} قرأ أبو عبد الرَّحْمن البلخي والحسن وأبو جعفر وحميد والأعرج والكسائي ويعقوب برواية رويس {ألا اسجدوا} بالتخفيف على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وجعلوه أمرًا من الله سبحانه مستأنفًا، وحذفوا هؤلاء بدلالة فاعلهما، وذكر بعضهم سماعًا من العرب: ألا يا أرحمونا، ألا يا تصدّقوا علينا، يريدون ألا يا قوم كقول الأخطل:
ألا يا سلمى يا هند هند بني بدر ** وإن كان حيانا عدى آخر الدهر

فعلى هذه القراءة اسجدوا في موضع جزم على الأمر والوقف عليه ألا، ثمّ يبتدي اسجدوا.
قال الفرّاء: حدّثني الكسائي عن عيسى الهمذاني قال: ما كنت أسمع المشيخة يقرؤونها إلاّ بالتخفيف على نيّة الأمر، وهي في قراءة عبد الله: هلاّ تسجدوا لله، بالتاء، وفي قراءة أُبي ألا يسجُدون لله، فهاتان القراءتان حجة لمن خفّف، وقرأ الباقون: ألاّ يسجدوا بالتشديد بمعنى وزين لهم الشيطان اعمالهم لئلاّ يسجدوا لله فأنْ موضع نصب ويسجدوا نصب بأن، واختار أبو عبيد هذه القراءة وقال: للتخفيف وجه حسن إلاّ أنّ فيه انقطاع الخبر عن أمر سبأ وقومها، ثم يرجع بعد إلى ذكرهم، والقراءة بالتشديد خبر يتّبع بعضه بعضًا لا انقطاع في وسطه، والوقف على هذه ألا ثمَّ يبتدي يسجِدُوا كما يصل {الذي يُخْرِجُ الخبء} الخفيّ المخبوّ {فِي السماوات والأرض} يعني غيب السموات والأرض.
وقال أكثر المفسّرين: خبءَ السماء المطر، وخبءَ الأرض النبات، وفي قراءة عبد الله: خرجُ الخبء من السموات، ومن وفي يتعاقبان، يقول العرب: لاستخرجنّ العلم فيكم، يريد منكم، قاله الفرّاء.
{وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.
قراءة العامة بالياء فيهما، وقرأ الكسائي بالتاء وهي رواية حفص عن عاصم.
{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم} الذي كل عرش وإنْ عظم فدونه، لا يشبهه عرش ملكة سبأ ولا غيره.
قال ابن إسحاق وابن زيد: من قوله: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} الى قوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم} كلّه كلام الهُدهد. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة النمل مكية، وهي ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون، نزلت بعد الشعراء.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

.[سورة النمل: الآيات 1- 3]:

{طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)}.
{طس} قرئ بالتفخيم والإمالة، و{تِلْكَ} إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين:
إما اللوح، وإبانته: أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه إبانة. وإما السورة.
وإما القرآن، وإبانتهما: أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع، وأنّ إعجازهما ظاهر مكشوف، وإضافة الآيات إلى القرآن والكتاب المبين: على سبيل التفخيم لها والتعظيم، لأنّ المضاف إلى العظيم يعظم بالإضافة إليه. فإن قلت: لم نكر الكتاب المبين؟ قلت: ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له، كقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.
فإن قلت: ما وجه عطفه على القرآن إذا أريد به القرآن؟ قلت: كما يعطف إحدى الصفتين على الأخرى في نحو قولك: هذا فعل السخي والجواد الكريم، لأنّ القرآن هو المنزل المبارك المصدّق لما بين يديه، فكان حكمه حكم الصفات المستقلة بالمدح، فكأنه قيل: تلك الآيات آيات المنزل المبارك آي كتاب مبين.
وقرأ ابن أبى عبلة: {وكتاب مبين} بالرفع على تقدير: وآيات كتاب مبين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين قوله: {الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} قلت: لا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقدّم والتأخر، وذلك على ضربين: ضرب جار مجرى التثنية لا يترجح فيه جانب على جانب، وضرب فيه ترجح، فالأول نحو قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا} ومنه ما نحن بصدده. والثاني: نحو قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ}.
{هُدىً وَبُشْرى} في محل النصب أو الرفع، فالنصب على الحال، أى: هادية ومبشرة، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة، والرفع على ثلاثة أوجه، على: هي هدى وبشرى، وعلى البدل من الآيات، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر، أى: جمعت أنها آيات، وأنها هدى وبشرى.
والمعنى في كونها هدى للمؤمنين: أنها زائدة في هداهم. قال اللّه تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيمانًا} فإن قلت {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} كيف يتصل بما قبله؟ قلت: يحتمل أن يكون من جملة صلة الموصول، ويحتمل أن تتم الصلة عنده ويكون جملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: هم الموقنون بالآخرة، وهو الوجه. ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرّر فيها المبتدأ الذي هو هُمْ حتى صار معناها: وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأنّ خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق.